روائع مختارة | قطوف إيمانية | التربية الإيمانية | العصبيات الجاهلية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > التربية الإيمانية > العصبيات الجاهلية


  العصبيات الجاهلية
     عدد مرات المشاهدة: 2690        عدد مرات الإرسال: 0

لابد أَن يتعرّض المسلم والجماعة والعمل الإِسلامي إِلى بعض المواقف التي يُمحَّص فيه الإِيمان وصفاؤه، والعلم وقوّته، والوعي وإمتداده، ومن خلال أَحداث الحياة وسنن الله يمضي هذا الإبتلاء والتمحيص على درجات متفاوتة في الشدّة أَو الخطورة، وقد تظهر من خلال ذلك كله أمراض وعلل في جسد الدعوة، فإِن تُرِكت نمتْ وإستشرت، وإن عولجتْ هدى الله من يشاء إلى الحق بإِذنه.

ونريد أَن نعرض هنا إِلى مرض يسهل إنتشاره وإمتداده، لأنه يلامس العاطفة المغروسة في الإِنسان، ولكن هذا المرض يدفع العاطفة إذا لامسها إِلى الإنحراف عن نهج الإِيمان، ويغذيها في هذا الاتجاه المنحرف، وإذا استمرّ الإنحراف يتحوّل إلى فتنة وضلالة كبيرة.

ولقد أَشار الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى ذلك في أَكثر من مناسبة وحديث، فعن أَنس رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث لم تزلْن في أُمتي: التفاخر بالأَحساب، والنياحة والأَنواء».

نعم! التفاخر بالأحساب والإعتزاز بها وبأمثالها من العصبيات الجاهلية، من إقليمية إلى قومية إلى غيرها، ويوضح حديث آخر إرتباط هذه القضايا الثلاث بالجاهلية وأفَكارها وعاداتها.

 فعن أَبي هريرة رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من فعل الجاهلية لا يدعهن أَهل الإسلام: إستسقاء بالكواكب وطعنٌ في النسب والنياحة على الميت» وفي رواية أحمد بن حنبل: «ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإِسلام: النياحة على الميت، والإستسقاء بالأَنواء وكذا» قلت لسعيد وما هو؟ قال «دعوى الجاهلية يا آل فلان يا آل فلان».

وعن أَبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجلّ قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ، وفاجر شقي، أَنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعنَّ رجال فخرها بأقوام، إنما هم فحْم من فحم جهنم، أَو ليكونُنَّ أَهون على الله من الجعلان التي تدفع بأَنفها النتن» أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن بنت واثلة بن الأسقع أَنها سمعت أَباها يقول: قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: «أن تعين قومك على الظلم» رواه أبو داود وابن ماجة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل تحت راية عِمِّيِّة، يدعو إِلى عصبية، أَو يغضب إلى عصبية، فقتْلُه جاهلية»، أي فقتاله جاهلية، رواه ابن ماجه والنسائي ومسلم، وفي رواية لمسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّة» الأَمر الأعمى لا يستبين وجهه ، يغضب لعَصَبَةٍ أو يدعو لعَصَبَةٍ أَو ينصر عَصَبة، فُقُتِل فقِتلةٌ جاهلية. «ومن خرج على أمتي يضرب بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهده، فليس مني ولست منه»

من هذه الأحاديث الشريفة تتضح لنا حقيقة المرض والعلّة على صورته الواقعية، وكذلك فإن الأحاديث الشريفة تشير إِلى جوهر العلاج الذي يرسمه منهاج الله بتكامله وتناسقه وترابطه.

إنها مسئولية الدعوة الإسلامية، ومسئولية الدعاة والمربين، ومسئولية الآباء والأُمهات، ومسئولية كل مسلم أَن ينهض لعلاج هذا الداء القاتل، الداء المستشري في حياة الإِنسانية.

إن دعوى الجاهلية هذه: يا آل فلان ويا آل فلان، هي وأمثالها من دعوات الإقليمية، والقومية تمثل إنحراف عاطفة القربى ورابطة البلد عن خطها الإِيمانيّ ونهجها الرباني، لتصبح عاطفة ودعوى جاهلية، تفسد في الناس وتفرق، بدلاً من أن تجمع وتصلح، إِنها العصبية التي عرفها لنا وحذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنها الباطل والفتنة والفساد.

وفي واقعنا اليوم، واقع المسلمين في الأرض، إستشرى هذا المرض على صورة خطيرة مدمّرة، فأَصبح المسلم الذي يصلي ويصوم ويحجّ يجد إعتزازه في نفسه وعاطفته وفكره لأرضه أولاً قبل دينه وعقيدته، أصبحنا نجد هذه الدعوى الجاهلية تمضي في واقع المسلمين تحت راية الإسلام وشعار الإيمان، لقد أصبح الواقع المنحرف الذي يعيشه المسلمون هو الذي يصوغ روابط الناس وعلاقاتهم، ولم يعد الإيمان والتوحيد، ولم تعد آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يعد هذا كله هو الذي يصوغ الروابط بين الناس.

إِن الودّ بين الأَهل والأَرحام وهم ملتزمون بدين الله أمر مشروع حتى يقوى المسلم على الوفاء بأمانة صلة الرحم، وإِن حبّ الوطن، حبّ المؤمن لداره وأرضه وبلده، هو من فطرة المؤمن وطبعه، ولكنّ هذا الحب يصوغه الإيمان والتوحيد، حتى لا يتحول إلى عصبية جاهليّة تجعل ولاء المسلم الأول لأهله وعشيرته أو أَرضه ووطنه، ولاءً أعلى من ولائه لله ورسوله، وتجعل أُخوة الأرض والوطن أعلى من أخوة الإيمان، وتصبح الأرض هي محور الأحلاف والصلات، والتكتلات والتجمعات، ويصبح المؤمنون بذلك على غير ما أمر الله ورسوله به. يصبحون أشتاتاً وأحزاباً، وفرقاً وشيعاً، يحارب بعضهم بعضاً، ولا يصبحون أُمة واحدة من دون الناس كما أمر الإسلام، وتُصبح الحوافز بذلك حوافز جاهلية، حوافز أرض ودنيا، حوافز مصالح وعواطف منحرفة، ولا تكون حوافز إيمانيّة جلية تشدّ المؤمن ليسعى على صراط مستقيم، هدفه الجنة ورضاء الله، ليسعى وهو يتذكَّر ويعي مع كل خطوة الآيات والأحاديث التي ترسم له دربه، وتصوغ له صلاته وروابطَه، حتى تأخذ كلُّ صلة صورتها الإِيمانية، وحتى تُؤدّي هذه الرابطة المهمّة التي شرعها الله، وعلى الصورة التي أمر بها، وفي الحدود التي أقامها، دون تجاوز وطغيان، أو تقصير وظلم.

لا يتسنَّى للمؤمن أن يفي بهذا الأَمر، أو أَن يدعي روابطه على نحو إِيماني يَعْبُد بها الله سبحانه وتعالى إلا إذا صدق الإيمان وصفا التوحيد في قلبه، وإلاّ إذا ملأَ العلمُ الحقُّ قلبه بالآيات والأحاديث، حتى يعرف من منهاج الله حدود كلِّ رابطة، لا من أهوائه المتفلِّتة وعواطفه الجاهلة، ومصالحه التي يُخفيها تحت الشعارات والرايات والزخارف، بغير هذا العلم، وبغير التوعية والتدريب المتواصل الذي كانت توفّره مدرسة النبوّة، وبغير الرعاية والمتابعة والإشراف، والإدارة الحازمة الواعية القوّية، لا يستطع المسلم أَن يلتزم الروابط الإِيمانية حقَّ الالتزام.

عند ضعف الإيمان وغياب العلم بمنهاج الله، وغياب التدريب والرعاية والإعداد، تخضع الروابط عندئذ لقوى العادات والأعراف، والعاطفة والنزوات، وضغوط الجهل والأَهواء، فتنحرف الروابط من خلال التصوّر والممارسة إلى أَشكال جاهلية، حتى تألفها النفوس، ثم ترضى بها وتخضع لها، ثم تراها أَنها هي الحق فتدعو لها، ثم تقاتل دونها.

إِن الحدود التي أقامها أَعداء الله لتمزيق هذه الأمة، أَلفها الناس ثمَّ رضوا بها، ثمَّ أَخذوا يقيمون الأَعياد والأَفراح لها، ثمّ أَخذوا يدافعون عنها ويحمونها، ويتمسّكون بها تحت شعارات الوحدة وزخارفها، بدلاً من مقاومتها والسعي الحثيث لإلغائها، وأَصبح هذا الواقع المخالف لنصوص منهاج الله هو الذي يصوغ الروابط والعلاقات على مدى غير قصير من الزمن، ولكنه قصير بالنسبة لحياة أُمة! ثم أَصبح يصوغ السياسة والمواقف، والإقتصاد والمصالح، حتى إمتدت المأساة وزاد الجرح عُمقاً في جسد الأُمة.

لقد أصبح من السهل أَن يُرفَع شعار الإِسلام ورايته، وفي الوقت نفسه يمضي الجهد والفكر والعطاء بروح قومية أَو إِقليمية ترسم الدرب والنهج والأَهداف، وتصوغ النيّة والعلاقات تحت شعار الإِسلام، إذا جاء الإقتصاد أَصبح الناس إشتراكيين، وإذا جاءت السياسة أصبح الناس ميكيافيليين، وإذا جاء الأدب فالناس حداثيون، وإذا عرضت المصالح فهم إِقليميون أَو قوميون، ولم يأخذوا من الإِسلام إلا راية يتخفّى الناس في ظلالها، وهم ماضون على نهج غير إِيماني.

ويزداد الأَمر سوءاً حين تصبح التجمعات إقليمية أو قومية في بنيانها ونهجها وأَهدافها، ثم يُظَلَّل هذا كله براية إِسلامية أَو تلاوة قرآنية، أو لباس وزينة وشعار، وفي قلب الفكر وروح النهج ولاء قوميٌّ أَعلى أَو إِقليميٌّ أكبر، هو الذي يرسم الدرب ويحدِّد النهجَ، ويقيم العلاقات ويبني الأَهداف، وقد تتفلّت من بين الزخارف والزينة، والطلاء والأَصباغ، تعبيرات مناقضة لزخارف الراية والشعار، تكشفُ حقيقة الفكر وروح النهج واتجاه المسيرة، ولكن هذه التعبيرات المتفلّتة تُطوَى في أَمواج العاطفة والحماسة، حتى لا يكاد يلتفت لخطورتها إِلا القليل الذي يغيب صوته.

ويزداد الأَمر سوءاً حين تصبح الزخارف والزينة والشعارات تُرضي الناس فَيُقْبِلوا عليها على أنها هي الجوهر الحقّ، دون أَن يسألوا عن حقيقة هذا الزخرف، وما فيه من خلل وإضطراب وتصادم مع النهج الإيماني، وتصبح البطولات القومية بعد ذلك بطولات إيمانية تمنح لقب الشهيد مثلاً لكل قوميًّ صرع في الميدان ولو كان نصرانياً أو ملحداً أو ضالاً، ومن خلال ذلك تلتقي المناهج غير الإِيمانية مع الشعارات والزخارف في تحالفات وولاءات، ثم يبحث الجميع عن مسوّغات لذلك في تأويل للآيات والأَحاديث، تأويل أَصبحت النفوس مستعدة لقبوله، والعقول جاهزة للدفاع عنه.

إِن الأمر يبلغ غاية السوء وأَشد الخطر حين يصبح الرأي العام المنتسب للإسلام يقبل هذا التأويل، وهذا الواقع، ويمضي معه ليكون حامياً له وقوة له، بعد أَن سكت عنه أَولاً ثمَّ إستسلم له ورضي به واعتاده وأَلفه!

ثمَّ لا يستيقظ أَحد إلاّ عند نزول البلاء بعد البلاء، والفتنة بعد الفتنة، والدمار بعد الدمار، واللجوء بعد اللجوء، والمجازر بعد المجازر، ثم تجد من يسأل: لماذا حلّ بنا عقاب الله؟! {.. قل هو من عند أَنفسكم..}، هذا هو ما كسبت أَيديكم، وهذا هو ما صنعتموه أَنتم بأَيديكم وأَنفسكم، فالله حق يقضي بالحق، لا يظلم شيئاً، ولا يظلم أَحدا!.

إِنها مسؤولية كل مسلم أَن يبذل جهده ليعالج هذا المرض في نفسه أَولاً ثمَّ في أهله وعشيرته ثم في قومه وأُمته.

وإن أَول العلاج هو تصحيح التصوّر الإِيماني والتّوحيد، حتى يصدق الولاء الأول لله، وحتى يصدق العهد مع الله، وحتى يكون الحب الأَكبر لله ولرسوله حقيقةً لا مجرد شعار يطويه حب الأهل والعشيرة، وحب المصالح والأهواء، إِنه عمل هام ضروري لإغناء عنه، حتى يستقيم الإِيمان والتوحيد على النهج الربّاني في جميع تصوّراته وممارساته.

إِنها القضية الأُولى التي تحتاج إلى رعاية وإعداد، وتدريب وبناء، وإِن من أَهم الوسائل إلى ذلك مصاحبة منهاج الله مصاحبة عمر وحياة، مصاحبة منهجية، في ظل رعاية حانية وإِشراف وتدريب، حتى تستقيم النفوس التي يكتب الله لها الهداية برحمته وفضله، ولا شيء يصنع في النفوس مثل منهاج الله إذا آمنت القلوب ووعت وتدبّرت.

إنها قضية هامة ليتبرّأ المسلم من كل الروابط الجاهلية، والعواطف الجاهلية، والأَفكار الجاهلية والممارسات الجاهلية، فلا تخدعه الزخارف والزينة، والشعارات والرايات، ويظل يسأل عن الجوهر حتى يتأكد ويطمئن، ويظل يسأل عن النهج وتفصيلاته، ومدى ارتباط النهج بالأَهداف، وكيف يوصل النهج إلى الأهداف، ومدى ارتباط هذا كله بمنهاج الله!

إن علاج أمراضنا وعللنا لا يمكن أَن يتمّ بالشعارات المتنافسة المتصارعة، ولكنه يتمّ بالنهج المدروس، والخُطة الواعية، والعمل الدائب والبذل الصادق ليل نهار، عسى أَن يكتب الله لنا النجاة في الدنيا والآخرة.

العصبيات الجاهلية وما يبنى عليها من روابط وصلات مرض قاتل مدمِّر في واقعنا اليوم. وإِنها مسؤولية كل مسلم أَن ينهض لعلاج هذا المرض القاتل في الأُمة،إنها مسؤولية البيت والمعهد والدعاة والعلماء وأُولي الأمر.

وإن هذا المرض القاتل لا ينحصر شرّه في القطر الواحد أَو الأُمة المسلمة وحدها، كلاّ! إِنه خطر يهدد حياة الإنسان والبشرية كلها على الأرض، إِنّه الداء الذي يثير الأَحقاد الباطلة بين الشعوب، حتى يصبح كلُّ شعب لا يرى الحقَّ إلا في مصالحه الظالمة وأطماعه العدوانية، فتثور الحروب وتلتهب الأرض بنارها، ويفقد الناس الأمن والعدالة والحرّية الكريمة، وتضطرب الموازين بأيدي الناس حتى يظلم بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، وتصبح تعبيرات هيئة الأُمم المتحدة ومؤسساتها، ومجلس الأَمن وقراراته، والنظام العالمي الجديد وزينته، وحقوق الإِنسان ولجانها، وكل ما شابه ذلك، كل هذا يصبح أَداة إستغلال فاسد لتنفيذ جريمة هنا وجريمة هناك، يكون من أول ضحاياها دعاة العصبية الجاهلية أَنفسهم، أو الذين رضُوا وسكتوا عن باطلها، في أَجواء الهوان والضعف، أَو أَجواء العاطفة غير الواعية، العاطفة التي تشدّها الزخارف الكاذبة فتنسى جوهر الحق وعدالة الميزان، وتنسى أَمر الله وشرعه ومنهاجه!

ونستطيع أَن نوجز هذه العصبيات الجاهلية أو نعدّد بعض مذاهبها ونماذجها في واقع المسلمين اليوم، وفي واقع البشرية كذلك، على النحو التالي:

= العصبية للذات وما تحمل من كبر وغرور وإِعجاب بالنفس.

= العصبية للأُسرة والزوجة والأَبناء، وللأَرحام والعائلة، وإيثارهم بالباطل وتأييدهم على الظلم.

= العصبية للأصدقاء والإفتئات على حقوق الآخرين ظلماً وعدواناً.

= العصبية للحيّ أَو المدينة حتى يكاد القطر الواحد يتفتّت نتيجة لذلك.

= العصبية للجماعة أَو الحزب أو أَي تجمّع حتى يصبح اسم الجماعة أَو الحزب أو التكتل ينال الولاء الأَعلى والنصرة الأَشد، فتتطاحن الجماعات وتُسدّ أَبواب اللقاء.

= العصبية للقطر أَو الإِقليم حتى تصبح الوطنية الإقليمية هي التي ترسم الدرب والنهج، والعلاقات والأَهداف، وهي التي يدور حولها الأَدب والفكر والعاطفة والولاء، وتتمزّق الأُمة وتتناقض مصالحها، فتتصادم وتفترق، أَو تتعاون وتلتقي، على أساس مصالح متبدِّلة ومطامع لا تخضع لميزان عادل.

= العصبية القومية التي ترى نفسها أَعزَّ من غيرها بجنسها ودمها، وتتفاضل الشعوب عندئذ بضلالة الأجناس والدماء في دعوى جاهلية باطلة يحرّمها الإِسلام، فتُسدُّ بذلك أَبواب تلاقي الشعوب والأجناس على غير الخير والحق في منهاج ربّاني كامل، ولا يعود التنافس على خير، ولكن على شر وتحاسد وفتنة ومظالم، وتسود شريعة الوحوش تحت رايات الحضارة الكاذبة، وتلتهب الأرض فتنة وحروباً ودماراً.

وتأخذ هذه العصبيات في واقع المسلمين وواقع البشرية عامة صوراً وأشكالاً متعددة، ولكنها تظل في جميع صورها تحمل المظالم والفتنة والفساد في حياة الناس! ومسؤوليتنا أَن نكشف هذه الصور المتعددة في كل واقع حتى تتمَّ معالجتها.

إِنها إِذن مهمة المسلم ومهمة الأُمة المسلمة كلها أَن تحارب هذه الفتنة في الأرض، وتدفع عن الناس شرَّها وفتنتها، ومن هنا تتضح لنا واحدة من أَهم مسؤوليات الدعوة الإِسلامية والأَمة المسلمة على مدار العصور، حتى توفّر للبشرية أَجواء الأمن الحقيقي والعدالة الصادقة والسلام العزيز على ميزان رباني أَمين.

ومن هنا ندرك البعد الإنساني للدعوة الإسلامية ودورها الهام في بناء فكر الإِنسان وعاطفته وولائه، وتوجيه جهده وعطائه.

إِن تحقيق هذه المهمة العظيمة، أو معالجة هذا الداء الخطير لا يتمّ بكلمة نلقيها ثم نمضي، إِنها تتمّ من خلال مناهج تفصيلية تطبيقية تحمل العلم والنهج والتدريب، وتحمل معها الرعاية الحانية والإِشراف، والتعهّد والمراقبة، والتوجه الدائب والنصح الأَمين.

وإِن لمنهاج الفردي بنظريته وصورته التطبيقية العملية، ومنهج لقاء المؤمنين كذلك بنظريته وصورته التطبيقية العملية، رَاعيَا هذه الناحية لِيُوفِّرا أوسع الأَساليب النظرية والتطبيقية لمعالجة هذه القضية وغيرها، وكذلك ميزان المؤمن الذي يقوم أولاً على صدق الإيمان والتوحيد وصدق الولاء والوفاء بالعهد كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز {وأوفوا بعهد الله إذّا عاهدتم.. }!

ولكن يظل للجهد البشريّ المبذول، ومدى التزامه الخطة والنهج، ومدى تفاعله ووعيه لذلك، ومدى صدقه وبذله وعطائه، سيظل لهذا كله دور رئيس في نجاح الخطة وبلوغ الهدف، وقبل هذا كله تكون هداية الله هي العامل الأَول، فالأَمر كله لله، ولكننا نبذل الجهد ليستوعب وسعنا وطاقتنا عبادة لله وإستجابة لأَمره وطاعة له.

ومن خلال المنهاج الفردي ومنهج اللقاء يمكن معالجة سائر العيوب والأخطاء والعلل والأَمراض، على قدر ما يصدق الداعية بالالتزام بالنهج، وبوعيه للنهج، وعلى قدر وفائه بالأمانة في عنقه، وما يبذل من رعاية ومتابعة، وتدريب وإِعداد، ونصحٍ لله ولرسوله ولكتابه ولأَئمة المسلمين وعامَّتهم.

ومن المناسب أن نذكِّر أَنفسنا، وأَن نعيد ونكرر، أَنَّ الإسلام يحترم الروابط والعلاقات التي شرعها الله بين الناس على أَن يصوغ الإسلام هذه الروابط كلها لتكون روابط إِيمانية، وعلى رأس هذه الروابط الإيمانية أُخوة الإِيمان، أُخوة الإِسلام، الأٌخوة في الله كما صاغها منهاج الله.

ولكنّ هذه الأُخوة في الله يتعذَّر تطبيقها في واقع الناس إِلا إِذا كان الولاء الأَول والأَكبر، الولاء الواعي الصادق، هو لله، ومن هذا الولاء ينشأ كل ولاء آخر، ومنه تنشأ الموالاة بين المؤمنين، ومنه ينشأ الوفاء بالعهد الحق، فإذا إضطرب الولاء لله اضطربت الموالاة بين المؤمنين وإنحرفت لتصبح موالاة تجمعات وأحزاب تفرّق المؤمنين ولا تجمعهم، وتصبح صورة من صور العصبيات الجاهلية، ويتعذّر عندئذ الوفاء بالعهد الرباني ويضطرب السمع والطاعة وتختلط الأمور.

والموالاة بين المؤمنين ليست قضية مودة وعاطفة فحسب، ولكنها مسؤولية والتزام، وحقوق وواجبات فصّلها منهاج الله، وهي عهد مع الله من المؤمنين جميعاً ليكونوا أمّةً واحدة.

ولعله يجدر بنا أَن نورد بعض النصوص من منهاج الله لتذكرنا بحقيقة الروابط الإِيمانية: {إِنما المؤمنون إِخوة...} [الحجرات:10]، {يا أيها الناس إِنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]، {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون...} [الحجرات:15]، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أُولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} [التوبة:71]، {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون*ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 55-56].

وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أَخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» رواه مسلم، وعن أَبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً» رواه مسلم، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إِذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه مسلم.

هذه بعض ملامح الموالاة بين المؤمنين: ودٌّ وحبٌّ في الله، حقوق وواجبات، ولاء واحد من الجميع لله، يحبون الحق ويتحرّونه ويخضعون له، إِنها موالاة بين الأَفراد، وبين الشعوب، تنمو معها الروابط الإِيمانية مندّاة بالإيمان غنيّة بالصدق، تمضي على نهج ربّاني، لتؤدِّي مهمّة إِيمانية في واقع الإِنسان، مهمة خير وصلاح، فلا تنحرف إلى شر وفتنة وفساد.

لذلك ندعو الأَفراد والحركات الإسلامية لتنظر في نفسها ومناهجها ووسائل تربيتها: كم طبّقت هذه القواعد الربانية، وكم غرستها في نفوس الأجيال التي تتعهدّها؟! كم أَنقذتها من العصبيات الجاهلية والولاءات الخاطئة وكم نشَّأتها على الروابط الإِيمانية كما أَمر الله ورسوله؟!

إِنها مسؤولية كبيرة سيحاسِب الله عليها عباده يوم القيامة، ويمضي عليهم قدره في الحياة الدنيا والآخرة، فلينهض الجميع إِلى هذه المسؤولية، فيها نرسي القاعدة المتينة للقاء المؤمنين، ولقاء العاملين الصادقين، وبناء الأُمة المسلمة الواحدة.

ومن أخطر القضايا التي تثير العصبيات الجاهلية في الفرد والجماعة الكبر والغرور والإعجاب بالذات، ومما يؤثر في تهذيب ذلك معرفة المسلم لحدوده ووفاؤه بمسؤولياته وعدم تجاوز تلك الحدود والمسؤوليات، حتى لا تصطدم الحدود والمسؤوليات، فتضيع الجهود وتُشْغل بالفتنة بعد الفتنة، وكلٌّ يريد أن يبرز نفسه، أو يبرز قومه أو وطنه على غير حق وعلى غير ميزان عادل.

نعود ونؤكد أن فهم ميزان المؤمن فهماً سليماً عن إيمان وعلم وصدق التزام، يعين كثيراً من الحد من هجمة العصبيات الجاهلية والكبر والغرور، ويساعد على ذلك المنهاج الفردي ومنهج لقاء المؤمنين.

إلا أن هذه كلها يسقط دورها إذّا إختل الإيمان والتوحيد وضعف العلم، وتجاوز المسلم حدوده، وغلب على نفسه غروره وكبره وإعجابه بنفسه، وضعف الوفاء بالمسؤولية وحدودها، والعهد وأسسه.

ولا بد أَن نؤكد مع ختام هذه الكلمة أَنه لا يمكن فصل هذه القضية عن سائر قضايا منهاج الله، ولا هذا المرض عن سائر العلل في الأُمة، فالنهج والخطة والجهد والبذل يجب أَن يتناول كل العلل والأمراض عسى الله أَن يمن علينا بنصر من عنده، إِنه هو العزيز الحكيم.. والحمد لله رب العالمين.

الكاتب: د. عدنان علي رضا النحوي.

المصدر: موقع لقاء المؤمنين.